مدخل إلى تحليل الخطاب الشعري
(مقاربة منهجية ، مفهومية، توجيهية)
(السداسي الثاني-السنة أولى ماستر-)
تمهيد:
عند تناولنا " الخطاب الشعري" بالقراءة والتحليل، تتبادر إلى أذهاننا أسئلة كثيرة ومتشعبة مؤداها، كيف يمكننا أن نميز هذا الخطاب من بين سائر الخطابات الأدبية الأخراة؟ وما الفرق بين الخطاب الشعري والقصيدة الشعرية؟ وما هي القصيدة السردية؟ وهل يمكن أن تكون الكتابة المعيار الوحيد للتفريق بين الخطاب والنص؟ ولماذا يتسم الخطاب الشعري بظاهرة التعددية بينما لا تتسم القصيدة بهذه الظاهرة؟ وكيف يتم تحليل الخطاب الشعري؟ هل هناك منهجية محددة لتحليل الخطاب الشعري أم هناك مقاربات منهجية تمتح رؤيتها المعرفية من مشارب ومظان نظرية مختلفة ؟
هذا فيض من غيض من الأسئلة التي يمكن أن تطرح في هذا المجال والتي تقرر، بمعنى من المعاني،أن تحليل الخطاب الشعري" يقتضي -إلى جانب العدة النظرية والمنهجية والمصطلحية والأدوات الإجرائية التحليلية –وعي الدارس بالظروف العامة التي أفرزت الخطاب الشعري في مرحلة تاريخية محددة والملابسات التي نشأ فيها، سواء كان خطابا شعريا تقليديا معياريا أو حرا. وهل هو خطاب معاصر أم قديم؟ وما هي التحولات التي طرأت على بنية الخطاب الشعري المعاصر؟ وما هي المعطيات السياقية والخصائص المميزة لهذا الخطاب من حيث الشكل والمضمون ووظيفة الشاعر وامتداداته القومية والمحلية أو العالمية والإنسانية؟ وهل مدونة الخطاب المدروسة تمثل ظاهرة فريدة أم خصوصية عامة؟ مع الأخذ في الاعتبار جميع العلوم التي من شأنها أن تسهم في تحليل الخطاب مثل العلوم اللسانية والسيميائية وأنثربولوجية والنصانية والأسلوبيات وغيرها.
ستشكل الإجابة عن هذه الإشكالية جوهر مقياس تحليل الخطاب الشعري ، أرجو من طلبتي الأعزاء، أن يبذلوا قصارى جهودهم في هذا الاتجاه حتى يتمكنوا من استيعاب جل المحاضرات المقدمة في هذا الإطار على النحو المطلوب.
الخطاب الشعري: خصائصه ومميزاته:
لا شك أن المفهوم التقليدي في ثقافتنا العربية مازالت تنظر إلى الخطاب الشعري بوصفه نصا ذا قواعد منظمة على المستوى التركيبي والصوتي والعروضي. وهذا أمر صحيح ذلك أن الشعر لكي يكون شعراً ينبغي أن يكون منظماً على مستوى الشكل من تراكيب وأصوات وقوافٍ وعروض) وعلى مستوى المضمون أهميته وقيمته بالنسبة للمتلقي). إذا حقق الشعر هذه المستويات فإنه سيكون ذا بعد جمالي.
وضمن هذا الإطار يقترح سالي مكليندون S.Mclendon 1982) تصورا باعتبار "أن النص الشعري يتألف من عدة أنظمة: صوتية وصرفية ونحوية وعروضية"[1]. وقد ترك اللسانيون لنقاد الأدب ما يدعى بالنظام البلاغي الذي يعدُّ من أهم الأنظمة الشكلية التي تؤلف النص الشعري وتؤسس علاقات مضبوطة بين جميع الأنظمة الأخرى.
لكن هذا التصور قد يجعل من الخطاب الشعري والقصيدة شيئا واحدا، فما يجري القصيدة من تحليل يجري على الخطاب الشعري ما يدفع الدارس في هذا المجال للبحث عن عناصر أخرى يمكن الاستناد إليها لمقاربته مقاربة منهجية مؤطرة إبستميولوجيا ومعرفيا.
ذلك أن الخطاب المنطوق يتجلى من خلال الوقفة والإشارة والنبرة والنغمة وتوترات الكلام... الخ. هذه الصفات البلاغية تزول عندما يتحول الخطاب إلى نص من الشفاهية إلى الكتابية، ذلك أن الوقفات في الكلام والنبر وارتفاع الصوت وانخفاضه والسرعة النسبية فيه أو القصدية في التوزيع ودرجات التنفس في أثناء الكلام ودمج الشكل مع المعنى ثم دمج الصفات النغمية فيهما... يسمح ببناء النظام البلاغي في الخطاب الشعري المنطوق، أضف إلى ذلك أن اللشاعر(المخاطب) عندما يستعمل أسلوبه الشعري يضيف نكهة بلاغية للمتلقي. هذا بالإضافة إلى الخلفية والحضارية التي ينطلق منها الشاعر لتلوين نصه الشعري بأطياف مختلفة.
ومن هنا يدخل السياق كأحد أهم الأسس التي يقوم عليها الخطاب إلى جانب الاتساق والانسجام والوسائل الاحالية والاستبدالية ..ذلك أن الخطاب الشعري نظام علائقي مخصوص كلي مركب تركيبا آنيا أو متزامنا بين أقطاب الدورة الخطابية أو مكونات العملية الخطابية مثل المخاطِب،والخطاب، والمخاطَب، والمخاطَب له أو من أجله، والمخاطَب فيه والمخاطَب به..كما أن الخطاب الشعري هو عبارة عن نظام علاقة كلية مفتوحة (متعددة ولا نهائية).
ومن هنا يمكن اعتبار الخطاب الشعري نظاما مركبا من عدد من لا يحصى من الأنظمة الصوتية والتركيبية والدلالية والتداولية التوجيهية والبيانية التي تتوازى وتتقاطع جزئيا وكليا في ما بينها يمكن دراستها وفق مستويات شكلية ومضمونية، في ضوء منهجية محددة لسانية أو بنيوية أو سيميائية....الخ، تأخذ بعين الاعتبار لإطار العام للسياق التداولي الآني، وذلك بالتركيز على الظروف العامة التي أفرزت الخطاب الشعري الذي ينتمي إليها (هل هو خطاب تقليدي أم خطاب حر، خطاب كلاسيكي أم خطاب رومانسي أم خطاب معاصر...الخ)، فضلا على تحديد العوامل التاريخية و الاجتماعية و السياسية الثقافية التي أسهمت في إنتاجيته مع الإشارة إلى أهم الخصائص المميزة لهذا الخطاب من حيث الشكل و المضمون و وظيفة الشاعر و امتداداته محليا وعالميا،إلى جانب طرح الإشكالية و صياغة عناصرها على شكل أسئلة كبرى تعيد صياغة الأسئلة التي ذيل بها الخطاب دون إغفال عناصر الانسجام والاتساق والربط بين التقديم والتأخير ، استنادا إلى عرض يتضمن ثلاث مراحل، كالأتي:
مرحلة الملاحظة، وتتم على مستوى مؤشرات الخطاب الخارجية وهندسته من حيث التشكيل مثل البناء السطري، حجم الأسطر ، البياضات وتنوع القافية والروي والعنوان...الخ.
ب - مرحلة الفهم :التفسير وهي مرحلة نستطيع من خلالها أن نبرز مدى فهمنا لمضمون الخطاب بناء على عملية تفكيكه إلى وحدات دلالية أو متواليات أو قضايا و أفكار أو صور و مواقف ..يتم تلخيصها و تكتيفها في جمل مركزة تختزل المعنى مع التركيز في هذه المرحلة على مكوناته البنيوية الأساسية بالإشارة إلى المعجم الشعري المستعمل من حيث القدم و الجدة و السهولة و التعقيد المباشر و الرمزي مع التمثيل وكذا الإشارة إلى الحقول الدلالية مع تحديد الحقل الأكثر حضورا دون إغفال وظيفة كل الحقول في علاقتها بالحق المهيم، وذلك لا يتأتى إلا بتصنيف الكلمات وفق دلالاتها النفسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية أو الطبيعية..الخ.
وبما أن الخطاب الشعري تهيمن عليه الظاهرة الإيقاعية المتمثلة في الوزن و الصوت والموسيقى، فإن هذه الظاهرة تنقسم إلى قسمين؛ إيقاع خارجي ينتج عن الوزن مما يستلزم الإشارة إلى والبحر وتحديد تفعيلاته، ومناسبته للغرض المعبر عنه، وكذا مناسبة القافية و الروي، وذلك بتحليل مكوناتهما وتحديد نوعهما من حيث التقييد والإطلاق والمتابعة والتركيب والإرسال ،كما ينبغي تحديد الروي و طبيعته الصوتية و هل توفق الشاعر في اختياره و هل حافظ على وحدة القافية والروي أم تم خرق هذا المعيار..
أما الإيقاع الداخلي فينتج عن التكرار ( صوت ، كلمة ، جملة ، بيت ، مقطع شعري، التجانس بين الألفاظ ، التقسيم و التوازن الصوتي). مع تبيان دور الموسيقى الداخلية في القصيدة وعلاقتها بالإيقاع النفسي و عاطفة الشاعر ( رقة، إحباط، فرح، حزن ،ثورة،غضب ...).
أما من وجهة النظام البياني فينبغي تحديد الصور البيانية: (التشبيه - الاستعارة - المجاز– و الكناية) مع الإشارة إلى دلالاتها ووظائفها.
كما أنه لا ينبغي إغفال ظاهرة الغموض أو الوضوح في الخطاب الشعري ، ففي حالة هيمنة ظاهرة الغموض يجب الإشارة إلى توظيف الرمز و الأسطورة والتاريخ و الدين و الحكاية الشعبية.. ودور ذلك في توليد الدلالات وجمالية الخطاب .
ومن ناحية أخرى لابد من تحديد ودراسة المحسنات البديعية كالجناس و الطباق والمقابلة و الإيجاز والإطناب ... مع تحليل نماذج من كل هذه الأنواع و بيان وظيفتها في تشكيل الصورة الشعرية في النص ( تعبيرية / جمالية، إيحائية... في ضوء التوسل بالأساليب التداولية لإبلاغ الخطاب الشعري كالأساليب الخبرية والإنشائية..
أما من حيث اتساق الخطاب وانسجامه فينبغي الإشارة إلى أدوات الربط كالضمائر المستعملة في الخطاب و علاقاتها بمستويات الخطاب الموسيقية والتركيبية والدلالية في إنتاج المعني والدلالات.
كل ذلك، يتم وفقا للسياق التداولي الخطاب الشعري، فقصيدة المدح مثلا، حينما تؤدى في حضرة الممدوح، تستحيل خطابا شعريا أما إذا كانت خارج هذا السياق تصبح مجرد نصا شعريا مستقلا مثبت بالكتابة.
[1] - Mclendon, S 1982 P:284-305). "Meaning, Rhetorical Structure, and Discourse Organization in Myth". In Tannen, Ded. 1982). Analyzing Discourse: Text and Talk. Georetown University Press, Washington D.C.